بين المسلمين والروم
بعد فتح مكة، أصبح الإسلام قوّةً كبيرةً، وحان وقت غروب شمس الطغيان، ومع انتشار الإسلام في الجزيرة العربية، وانتصارات المسلمين المتوالية في اليمن وحنين وغيرهما، خيّم القلق على قوى الاستكبار، وكان الفرس والرّومان في تلك الأيام، أكبر دولتين على وجه الأرض، وتحت تصرّف كلّ منهما قوة نظاميّة كبيرة. كان الروم قد انتصروا حديثاً على الفرس، وغدوا أكثر إحساساً بقوّتهم وجبروتهم، وإذا بهم يفاجؤون بقوّة أخرى تقف في وجوههم و تتحّداهم، ألا وهي قوّة الإسلام.
كانت قوى الطاغوت تخشى أكثر ما تخشاه، الحركات الثورية، وخاصةً ثورة الفكر، لذا فقد صمّم المستكبرون الرّومان على القضاء على قوة الإسلام الوليدة، وبأسرع ما يستطيعون.
وصلت أخبار سير جيش للروم، قوامه أربعون ألف مقاتل، إلى المسلمين، وأنّه بلغ حدود الشام وانضمّت إليه بعض القبائل من سكّان الأطراف، وصلت هذه الأخبار إلى المدينة في وقت كان فيه الناس يعانون من نقصان الموادّ الغذائية، وهم لم ينجزوا بعد جمع محاصيلهم، لكنّ رجال الله يعرفون أنّ الذّود عن حياض الإسلام، لا يتقدّم عليه أمر آخر. فلم تمض أيّام على صدور أوامر الرسول (ص) بالاستعداد، حتى تحرّك (ص) ووراءه ثلاثون ألفاً لم يكونوا قد أكملوا استعدادهم بعد، في اتجاه الجبهة، بعد أن ترك عليّاً (ع) في المدينة ليقوم مقامه في حمايتها والدفاع عنها قائلاً له: «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنه لا نبيّ بعدي» وحين وصولهم إلى المواقع الأمامية، قرب تبوك، بعد أن تحمّلوا المصاعب والمشاق، لم يروا أثراً لجند الرومان، الذين كانوا قد تقهقروا داخل حدود بلادهم خوفاً من الهزيمة امام جيوش المسلمين الزّاحفة.
توقّف الرسول ومقاتلوه هناك فترةً من الوقت، وبعد توقيعه عدداً من معاهدات الصداقة مع القبائل من سكّان الأطراف، عاد مع جيشه إلى المدينة، وكانت أخبار الفتح قد سبقتهم إلى هناك فتجمع أهلها لاستقبالهم. انتشرت أخبار فرار الرّوم أمام جيش المسلمين انتشاراً سريعاً واسعاً في كلّ مكانٍ، وأحسّت القبائل التي كان الخوف شاغلها من قوى المستكبرين من الفرس والروم، أنّ لها ظهيراً جديداً يعتمد على حمايته. فأبرموا مع المسلمين العهود والمواثيق. وغدت قوّة الإسلام أخطر عدوٍّ للمستكبرين، وأكبر ظهيرٍ للمستضعفين.
إنّ صرخات عمار بن ياسر تحت التعذيب، وأنين بلال الحبشيّ فوق صخور الصّحراء الملتهبة، ودم حمزة الزكي يسيل على أرض أحدٍ، ودماء المئات من الشهادء التي امتزجت مع بعضها، قد آتت كلّها ثمارها الآن، فأمثال عمار في هذا الكون فازوا بالنجاة، وأمثال بلال قد وهبوا الخلاص من ربقة الأسر، والدم الطاهر وثورة الشهداء المستمرّة عبر التاريخ، فجّرت الدّم يجري في شرايين أبطال الإسلام.
يأيّها الرسول بلّغ ما أنزل إليك من ربّك
في السنة العاشرة للهجرة، أتى أمر الله تعالى إلى رسوله (ص) بأن يذهب للحجّ هذا العام، ويعلن ذلك لسائر المسلمين. واستجابةً لدعوته (ص) تحرّك الآلاف من كل فجٍّ، متّجهين نحو مكّة، ليؤدّوا مناسك الحجّ بصحبة رسول الله (ص). وكانت مناسك الحج لهذا العام قد بلغت الغاية في الجلال، ولما انتهت وعزم الناس على التوجّه إلى مواطنهم، وقبل أن يتفرّقوا كل إلى وجهته، أمر الرسول (ص) الناس بالتوقّف في مكان يدعى «غدير غم»، ثم اعتلى مكاناً عالياً هيّئ له. وشرع يتحدث إليهم بأعلى صوته بعد أن حمد الله تعالى وأثنى عليه بقوله: أيّها الناس، لقد دعيت وسألبّي قريباً. ونزولاً عند أمر الله سبحانه أوصيكم فاستمعوا، أيّها الناس إني راحل من بينكم، وتارك لكم وديعتين ثمينتين، إحداهما القرآن كتاب الله، والثانية أهل بيتي، واعلموا أنّهما لن يفترقا حتى يوم الدين. ثم أخذ بيد عليٍّ بن أبي طالب (ع) ورفعها قائلاً: «من كنت موالاه فهذا عليّ مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه».
استمع كل من كان حاضراً إلى بلاغ الرسول ووصاياه، وبايعوا عليّاً كخليفةٍ لرسول الله (ص). لكنّ ضعاف الإيمان سرعان ما يتناسون، وسرعان ما يبتعدون عن سبيل الله سبحانه، ويلتحقون بركب الشيطان.
مع تحياتي
ابو همام